الحفاظ على التراث: فن البحث عن "صوت المجتمع"

يُعد التراث الثقافي وأهمية الحفاظ عليه من الموضوعات التي تناولتها أقلام شتى. ويُراد بالتراث الثقافي كل علامة تدل على وجود بشري في مكان ما، ولهذه العلامات صور كثيرة منها العمارة والمقتنيات والملابس والعادات، إلى غير ذلك. فالتراث الثقافي هو تجسيد لوجود البشر في مكان وزمان ما؛ ترك خلفه ما يكشف لنا عن طبيعتهم واهتماماتهم والأشياء التي عاشوا لأجلها وكم ارتباط حياتهم بحياتنا.
يشكِّل التراثُ الثقافي القيمَ والمعتقدات والطموحات، ويصوغ هوية الأمم ويوثِّق إنجازات أبنائها. فعندما أتأمل موقعاً كموقع الزبارة على سبيل المثال، لا أرى في قلعة الزبارة صرحًا مذهلًا أو في أطلال الزيارة مدينة قديمة فحسب، بل استحضر في مخيلتي جدةً تجدلُ ضفائر حفيدتها ومشهد الوداع الذي يجمع صائد اللؤلؤ بأسرته واجتماع كبار المدينة وهم يناقشون مسألة اتخاذ طرق جديدة للتجارة. وكل من يتأمل ذلك المنظر سيرى مشهداً مختلفاً وسيستحظر روايةً مختلفة.

التراث الثقافي هو نتيجة للحفاظ على تلك الذكريات القديمة والقيمة. ولهذا سيظل مفهوم الحفظ والحماية مرتبطًا به للأبد. ولا يُسمى التراث الثقافي تراثًا إلا إذ أورثَه جيلٌ سابق لجيلٍ حالٍ لكي يحافظ عليه وينقله للجيل الذي يليه. وبرغم أن المتاحف تُعد وعاء لحفظ الذكريات، إلا أن هناك من الذكريات ما لا يمكن تقديمه في صالات عرضها ، تلك الذكريات قد تتمثل في طرق نسلكها و مبان نمر بجانبها، أو في طريقة ارتدائنا للملابس أو في حكايات نقصها على أطفالنا.
ومن السُبل التي يمكننا – نحن الأفراد – الاحتفاء من خلالها بالتراث الثقافي هي النظر إلى ما هو أعمق وأبعد من الإطار الخارجي الظاهر للمعلم التراثي. فعندما نتأمل معلمًا تراثيًّا، علينا أن نسأل أنفسنا، لماذا يوجد بيننا؟ وأين كان؟ وماذا كان أثره في حياة أسلافنا؟ إذ ينبغى استحضار التاريخ والاستعانة به في تحفيز معارفنا وتحسين فهمنا للعالم الذي نعيش فيه.

لقد تعاقبت العديد من الحضارات على هذه المنطقة، وتعددت اللغات والقيادات والقبائل وحركات التجارة والثقافات التي مرت عليها أو استقرت فيها. وشهد تاريخنا لآلاف السنين تغييرات مستمرة في الكثير من فصوله؛ وهي تغييرات تستحق أن ندرس تأثيرها وكيف أفضت إلى ما نحن عليه اليوم.
إن التخلي عن حماية الموروث الثقافي، سيؤدي حتماً إلى اختفاءه مع مرور الوقت. أما إن حافظت عليه فستصنع حالة اندماج جميلة وفريدة وملهمة بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ولقد فطنت دولة قطر لهذا الأمر منذ أمد طويل، فجعلت الحفاظ على التراث الثقافي واتخاذه مصدرًا ملهمًا للمستقبل جزءًا من نسيج حياتنا اليومية وشددت على ذلك في رؤية قطر الوطنية 2030، ذلك لأنه سبيلنا لكي نروي قصتنا ونعزز مكانتنا في عالم يشتد استقطابًا.

وعلى مدار الأعوام الـ 15 الماضية، قطعت متاحف قطر شوطًا كبيرًا في مسيرة الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيزه، بداية من دراسة موقع الزبارة ومن ثم إدراجه على قائمة التراث العالمي إلى دراسة واكتشاف ما يزيد عن 6000 موقع أثري وحتى الحفاظ على المعالم الأثرية في شتى أنحاء قطر وترميمها. ولأن الحفاظ على التراث لا يقتصر على التنقيب والتأهيل فحسب، حققنا أيضًا إنجازات مهمة على مستوى تسجيل وتوثيق جزءٍ من ماضينا، حيث أنشأت متاحف قطر سجل قطر الوطني البيئي التاريخي ونظام إدارة معلومات التراث الثقافي لقطر، وهما أداتان لجمع البيانات حول تاريخنا وتراثنا. وتساهم لنا هذه الجهود مجتمعة الحفاظ على تاريخنا للأجيال المقبلة. وأدعوكم لإلقاء نظرة على بعض إنجازاتنا الموضحة في قسم التراث بــموقعنا.
إنني أؤمن بأنه لا سبيل لترجمة الفكر الإنساني إلى شيئ مستدام تتوارثه الأجيال إلا بالحفاظ على ثقافتنا. فبها نكتشف مصدر وجودنا ونتصل بماضينا وتاريخنا البشري وهويتنا المجتمعية. هذا وإلا فإننا قد نغامر بخسارة جزء مهم من هويتنا.
هذا المقال جزء من حملة #اعتز_بقطر التي تهدف إلى تعزيز التراث الثقافي في قطر. تابع مقالنا الشهري الذي نستكشف فيه جوانب مختلفة من الماضي الثري لبلادنا.
Add your comment